بسم الله الرحمن الرحيم

كشف المؤرخ السيد حسن الأمين جوانب من الحقيقة في غزو المغول لبلاد المسلمين ،
في كتابه ( الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي ) وهو كتاب جدير بالقراءة ،

قال في ص 117 :

من حرض المغول ؟
--------------------
رأينا فيما تقدم أن وفد الخليفة إلى حفلة تنصيب ( أوغوتاي ) لقي إلى جنب الترحيب تهديدا ووعيدا ، وعاد إلى بغداد برسالة معربة عن ذلك . وأما وفد النزاريين فقد لقي غضب ومهانة . ولكل من المعاملتين أسباب وجذور ودلالات . فوفد الخليفة يمثل سلطة لم يصطدم بها المغول اصطداما مباشرا بعد ، ولكنهم يتهيؤون لهذا الاصطدام ، فهم على ترحيبهم يريدون أن يفهموا الذين وراء الوفد أن عليهم التسليم أو انتظار عواقب عدم التسليم .
وأما النزاريون فقد استطاعوا أن ينجوا من غزو جن?يز وأن تظل قلاعهم سليمة ويظلوا هم سالمين ، وهذا ما أثار حنق المغول عليهم حنقا تجلى في مقابلتهم لوفدهم ، وفيما بدر منهم بعد ذلك عندما تهيؤوا للغزو العام . فقد أعلنوا بكل وضوح أن هدفهم استئصال النزاريين ولقوا بين المسلمين من يحرضهم على ذلك ويمهد لهم السبيل . بعص المسلمين الذين كان الخطر المغولي لا يزال جاثما على أبوابهم بكل جبروته وقوته بعد غزو جن?يز خان ، لم يروا في وثنية المغول إلحادا ، وإنا رأوا هذا الإلحاد في عقيدة النزاريين . وأصبح هم المسلمين لا العمل على وضع الخطط للمستقبل القريب البعيد ، والاعتبار من الماضي بالتفكير في تنظيم القوى الإسلامية وجمع صفوفها لتكون سدا منيعا في وجه غزو مغولي جديد متوقع في كل ساعة . لم يصبح همهم هذا ، بل كان همهم كيف نقضي على النزاريين وقلاعهم .
إن التخلص من تلك الدعوة وأصحابها شئ لا يلام عليه من يريدون التخلص منها ومنهم ، ولكن على أن يتم ذلك بالقوى الذاتية ، لا سيما المعنوية منها من إقناع ودليل وحجة ، لا باستدعاء الأجنبي الوثني الطامع بالبلاد الإسلامية ، والذي هو في الوقت نفسه أشد إلحادا من كل ملحد ، وأفضع فتكا من كل فاتك .
كان ( منكوقا آن ) حفيد جن?يز هو الذي انتهت إليه خلافة جن?يز ، وكان هو الحاكم الذي تسير بإشارته جيوش المغول في كل مكان . وكان له عدة إخوة يقودون جيوشه ويحكمون باسمه أحدهم هولاكو. وعلى منكوقا آن هذا كان يتردد قاضي قضاة المسلمين شمس الدين القزويني ، وكان هم هذا القاضي أن يثير حفيظة الإمبراطور المغولي على النزاريين ويحرضه على اقتحام بلادهم ، فلم يترك وسيلة من الوسائل إلا استغلها لإنجاح مقصده .
يقول رشيد الدين الهمذاني في كتابه جامع التواريخ في الصفحة 233 ، من المجلد الثاني - الجزء الأول :
" في ذلك الوقت جان قاضي القضاة المرحوم شمس الدين القزويني موجودا في بلاط الخان . وذات يوم ظهر للخان مرتديا الزرد وأخبره أنه يلبسه تحت ثيابه خشية الملاحدة ، كما سرد له طرفا من اعتداءاتهم وغاراتهم . وكان الخان يتوسم في أخيه هولاكو مخايل الملك ، ويرى في عزائمه مراسم الفتح والغزو . وكان قد تفكر فرأى أن بعض ممالك العالم قد دخل فعلا في حوزة جن?يز خان وبعضها لم يستخلص بعد " .

ويقول الجوزجاني : ( انظر طبقات ناصري ، الصفحة 413 - 414 ) إن شمس الدين هذا كان على اتصال بالمغول ، وكان إماما وعالما كبيرا ، ذهب مرة إلى منكو خان وطلب مه أن يضع حدا لشر الملاحدة ويخلص الناس من فسادهم .
ويقول الجوزجاني أيضا : إن كلمات هذا القاضي كان لها أثر عميق في نفس منكو خان إذ نسب إليه الضعف والعجز لأنه لم يستطع أن يستأصل شأفة هذه الطائفة التي تدين بدين يخالف ديانات المسيحيين والمسلمين والمغول ، وما ذلك إلا لأنهم استطاعوا أن يغروا منكو خان بالمال ، بينما هم يتحينون رصة ضعف دولته ، فيخرجون من الجبال والقلاع ليقضوا على البقية الباقية من المسلمين ويعفوا آثارهم .

هذا بعض ما حفظه المؤرخون من تحريض قاضي قضاة المسلمين ( الإمام العالم الكبير ) على حد تعبير الجوزجاني ، أما ما لم يحفظوه فلا شك أنه شئ كثير . وتدل تصرفاته على أنه كان داهية دهماء يعرف كيف يتصل إلى قلب محدثه وعقله وكيف يستحوذ على عواطفه وشعوره .
ثم انظر كيف استطاع أن يثير في نفس حفيد جن?يز خان ذكريات عدم توفق جده بالاستيلاء على قلاع النزاريين ، حتى أدى الأمر أن يروي لنا المؤرخ الموقف على هذا الشكل : " فرأى منكوخان أن بعض ممالك العالم قد دخل فعلا في حوزة جن?يز خان وبعضها لم يستخلص بعد " ومن البدهي أن قلاع النزاريين كانت مما لم يستخلص بعد .
وتعقيبا على قول القاضي يقول صاحب جامع التواريخ : " فاستقر رأي منكوخان على أن يعهد بكل طرف من المملكة إلى واحد من إخوته ليخضعها لإرادته " . وكانت بلاد النزاريين من نصيب هولاكو .

هذه هي قصة من قصص بداية الغزو المغولي للبلاد الإسلامية على يد هولاكو الذي انتهى إلى ما انتهى من الوصول إلى بغداد وما جرى فيها من الفظائع والأهوال .
لقد كان بعض المسلمين محرضين على هذا الغزو ، وكان بطل التحريض " قاضي القضاة الإمام العالم الكبير " . ويفجعك فيما يفجعك أن القاضي الإمام المحرض قد جعل من أبر جرائم النزاريين أنهم لا يدينون بالوثنية دين المغول ، كما تراه في أقواله المتقدمة . فلو دانوا بها لما كان عليهم من بأس عند قاضي المسلمين وإمامهم العالم الكبير .
واستطاع هذا القاضي الإمام أن ينجح في مسعاه فقضى المغول على دولة النزاريين ، ولكنه قضوا في الوقت نفسه على خلافة بغداد وأزالوا دولة العباسيين .
وليتنا نعرف رأي القاضي الإمام المحرض بالنهاية التي وصل إليها العالم الإسلامي نتيجة تحريضه . صحيح أن المغول كانوا يعدون العدة لغزو العالم الإسلامي سواء حرضهم القاضي أم لم يحرضهم ، ولكن الصحيح أيضا أن " قاضي القضاة " كان من المحرضين المتحمسين لهذا الغزو وأنه أعطاهم المبرر ورفع لهم الشعار وكان من أخلص الأعوان . . .

وهنا نود لو سألنا ابن تيمية ، الذي قال في بعض ما قال : " إن التتار لم يكونوا ليغيروا على بغداد ولم يكونوا ليقتلوا الخليفة العباسي وبقية القواد المسلمين إلا بمساعدة الملاحدة الإسماعيلية " .
إنا نود لو سألناه من هو الذي ساعد المغول على الإغارة على بغداد وقتل من قتلوا ؟ أهو قاضي قضاة المسلمين أم الإسماعيلية الذين استهدفهم تحريض القاضي ثم استهدفهم تنكيل المغول ؟ ! ( 1 ) .
فقد كانت عصبية ابن تيمية تغشي على بصيرته فيقع في فضائح تاريخية وغير تاريخية مما رأيناه هنا وما نراه غير هنا .
ومضى هولاكو بجيشه الجرار معلنا أنه إنما يمضي للتغلب على النزاريين ولما وصل إلى ( كش ) أقام مدة شهر ، ثم أرسل عدة رسل إلى الملوك والسلاطين ( المسلمين ) تشتمل على هذه العبارات : " بناء على أمر القاءان قد عزمنا على تحطيم قلاع الملاحدة وإزعاج تلك الطائفة ، فإذا أسرعتم وساهمتم في تلك الحملة بالجيوش والآلات فسوف تبقى لكم ولايتكم وجيوشكم ومساكنكم وستحمد لكم مواقفكم . أما إذا تهاونتم في امتثال الأوامر وأهملتم فإنا حين نفرغ بقوة الله من أمر الملاحدة فإننا لا نقبل عذركم ونتوجه إليكم فيجري على ولايتكم ومساكنكم ما يكون قد جرى " ( 1 ) .

ولبى الملوك والسلاطين والأمراء المسلمون نداء هولاكو لمعاونته في مهمته ( المقدسة ) !!

ويصف رشيد الدين فضل الله الهمذاني في ( جامع التواريخ ) التسارع إلى تلبية النداء ( الجهادي ) فيقول : " أقبل من بلاد الروم السلطانان عز الدين وركن الدين . ومن فارس سعد بن الأتابك مظفر الدين . ومن العراق وخراسان وآذربيجان وأران وشروان وجورجيا الملوك والصدور والأعيان " . على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد فبعد احتلال هولاكو لبغداد وزحفه إلى بلاد الشام انضم إليه من انضم من ملوك المسلمين وساروا معه لقتال إخوانهم المسلمين ومعاونته في فتح بلادهم . نذكر منهم الملك السعيد ابن الملك العزيز ابن الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي الذي سلم لهولاكو الصبيبة ( 2 ) وانضم إليه في زحفه .
ويقول عن ذلك أبو الفداء في تاريخه ( ص 204 ، ج 3 ) : " وسار الملك السعيد معهم ( المغول ) وأعلن الفسق والفجور وسفك دماء المسلمين " .

وفي معركة عين جالوت كان مع المغول يقاتل المسلمين ، ولما انهزم المغول أسره المسلمين ثم قتلوه .
وكان معهم أيضا في هذه المعركة الملك الأشرف موسى صاحب حمص الذي استطاع الفرار عند حصول الهزيمة فلم يؤسر .
وهو من أحفاد شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي .
وممن حرضوا المغول على غزو الشام ومصر الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن الكامل بن العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي ،
وبعد النصر الإسلامي في معركة عين جالوت قبض عليه الظاهر بيبرس " وأحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى المغيث أجوبة عما كتب إليهم في إطماعهم في ملك مصر والشام " كما نص على ذلك أبو الفداء في تاريخه ( ص 217 ) ، ج 3 ) . ثم قتله الملك الظاهر .

وبصيرة ابن تيمية المغشاة بعصبيته لا ترى شيئا من هذا .
على أن الأيوبيين في الجزيرة والشام كانوا في أول من تعاون مع هولاكو فأرسلوا إليه يهادونه ويخطبون وده ، وقد أسرع الناصر الأيوبي نفسه إلى إعلان خضوعه للمغول وأرسل ابنه العزيز سنة ( 656 ه‍ - 1258 م ) " بتحف وتقادم إلى هولاكو وصانعه " .

أما الأشرف موسى الأيوبي صاحب دمشق فقد أسرع في تقديم ولائه لهولاكو ، في حين بادر المنصور بن المظفر الأيوبي صاحب حماه بالفرار إلى مصر تاركا حماه وأهلها يلقون مصيرهم ، ثم فر الناصر يوسف من دمشق وتركها فوضى . . ( 1 ) .

ونحن هنا نسأل ابن تيمية ومن لف لفه وما أكثرهم ماذا كنتم ستفعلون لو أن ملكا شيعيا هو الذي سلم ( الصبيبة ) لهولاكو وانضم إلى جيشه ؟ وماذا كنتم ستفعلون لو أن ملكا شيعيا أو أي شخص شيعي كان يقاتل مع المغول في معركة عين جالوت ؟
لقد انضم ملوككم إلى المغول وحاربوا المسلمين وكسبوا الخزي فتجاهلتم ذلك ورحتم تتهمون الأبرياء الشرفاء ! .
وممن يتجاهل ابن تيمية جرائمهم - وهو يتهم الأبرياء - يتجاهل جرائمهم لأن عصبيته توحي إليه بهذا التجاهل ، كبار علماء هولاكو الذين وضعوا أنفسهم في تصرفه فعاونوه على سفك دماء المسلمين ، منهم أبو بكر فخر الدين عبد الله بن عبد الجليل القاضي المحدث الذي ذكر صاحب كتاب ( الحوادث الجامعة ) أنه كان يتولى إخراج الفقهاء البغداديين ليقتلوا في مخيم هولاكو . وصاحب ( الحوادث الجامعة ) مؤرخ معاصر شهد الأحداث بنفسه . إن الذي كان يدهم بيوت فقهاء بغداد ويخرجهم منها ليسوقهم إلى هولاكو ليقتلهم هو ( القاضي المحدث ) الملقب ب‍ ( فخر الدين ) .
إن حامل هاتين الصفتين وهذا اللقب كان جلاد هولاكو الساعي بدماء الفقهاء العلماء إلى السفاك السفاح ، إنه يعرفهم واحدا واحدا لأنه منهم ويعرف مراتبهم ودرجاتهم ، ويعرف بيوتهم ومجالسهم ، فكان سهل عليه انتقاؤهم وسحبهم لتهرق دماؤهم .
وابن تيمية يغمض عينيه عنه وعن أمثاله ، ولا يرى فيما فعلوه ما يستحق المؤاخذة !

ابن تيمية وآخرون غيره لم يرعهم مشهد الملوك والسلاطين والصدور والأعيان المسلمين مقبلين إلى مقر هولاكو مقدمين له فروض الطاعة واضعين أنفسهم ومن إليهم في يديه يصرفهم كيف شاء ، ولم تثرهم مواكبهم المتدفقة براياتها وسيوفها وطبولها لتصب في الجيش الوثني السفاك استجابة لنداء طاغية المغول وتلبية لدعوته ، واستعدادا للسير تحت لوائه في غزوه المقبل ! . .

ابن تيمية لم يبصر شيئا من هذا وهو يتحدث عمن ( ساعد المغول للإغارة على بغداد ) ، بل أكمل كلامه المتقدم قائلا بعد أن ادعى على ( الملاحدة الإسماعيلية ) بأنهم هم الذين ساعدوا - أكمل كلامه قائلا عن الإسماعيليين : " وأهم رجالاتهم الذين حملوا وزر هذه الأحداث هو وزيرهم نصير الدين الطوسي في الموت ، إنه هو الذي أصدر الأمر بقتل الخليفة وفي بساط الحكومة العباسية " .

ولا نريد هنا أن نعيد الحديث عن مواقف نصير الدين الطوسي بعد ما تحدثنا عنها في غير مكان ولكننا سنقتصر على ما لم نذكره هناك مما يتعلق باتهامات ابن تيمية فنقول : يزعم ابن تيمية أن نصير الدين الطوسي كان أهم رجالات الإسماعيلية الملاحدة وأنه وزيرهم ، وأنه هو الذي أصدر الأمر بقتل الخليفة .
يزعم ذلك ابن تيمية متجرئا على نصوص التاريخ ، غير مبال بمنافاة قوله لأبسط حقائق تلك النصوص ، يفعل ذلك لأنه يريد بأية وسيلة أن ينال ممن يكرههم ، يكرههم لا لشئ يستدعي الكره ، بل لأنهم لا يرون رأيه في كل شئ وكل كن لا يرى رأيه فهو مكروه منه ، بل هو حلال الدم ، حلال الكرامة حلال الاستباحة : الاستباحة بالسيف أو الاستباحة بالقلم ! . .
وبهذا الاستحلال ، بفتاوى ابن تيمية سفكت دماء المسلمين في كسروان بلبنان ، وكادت تسفك دماء المسلمين في بعلبك والهرمل ، ودماء المسلمين في جبل عامل لولا أنهم لم يؤخذوا على حين غرة . . . < صفحة 125 > وبهذا الاستحلال استبيحت سمعة نصير الدين الطوسي ! . .
فما هي الحقيقة فيما رواه ابن تيمية عن نصير الدين الطوسي ؟ .
وسنرى بعد ذلك الحقيقة فيما رواه عن النزاريين .
1 - هل صحيح أن نصير الدين الطوسي كان أهم رجال الإسماعيلية الملاحدة وأنه وزيرهم ؟ .
2 - هل صحيح أنه هو الذي أصدر الأمر بقتل الخليفة ؟ إن الأمرين غير صحيحين وهما افتراء في افتراء ، وإليك الحقيقة :
كانت ولادة نصير الدين في طوس وفيها درس دراسته الأولى على أبيه وخاله وعلى كمال الدين محمد المعروف بالحاسب ، وبعد وفاة والده كان لا بد له من الاستزادة في الدرس ، وكانت نيسابور في ذلك الوقت مجمع العلماء وملتقى الطلاب فذهب إليها وحضر حلقة درس كل من سراج الدين القمري وقطب الدين السرخسي وفريد الدين الداماد وأبي السعادات الأصفهاني وآخرين غيرهم . كما لقي فيها فريد الدين العطار . وفي نيسابور قضى فترة ظهر فيها نبوغه وتفوقه وصار من المبرزين . وخلال وجوده في نيسابور زحف المغول زحفهم الأول بقيادة جن?يز حاملين الدمار والموت واجتاحوا فيما اجتاحوا بلاد خراسان وانهزم أمامهم السلطان محمد خوارزم شاه وانهارت بعده كل مقاومة وتساقطت المدن واحدة بعد الأخرى ، وساد القتل والخراب والحريق ، وفر الناس هائمين على وجوههم : بعض إلى الفلوات ، وبعض إلى المدن البعيدة وإلى بعض القلاع الحصينة . ومن لم يستطع شيئا من ذلك انطلق لا يدري أية ساعة يأتيه الموت . والقوة الوحيدة التي حيل بينها وبين المغول هي قلاع النزاريين - كما تقدم - وهي التي لجأ إليها نصير الدين فيمن لجأ . وهنا تختلف أقوال المؤرخين في كيفية هذا اللجوء .
ففيهم من يرى أن المحتشم ناصر الدين عبد الرحيم بن أبي منصور متولي قهستان ، قد ولي السلطة على قلاع النزاريين في خراسان من قبل علاء الدين محمد زعيم النزاريين آنذاك . وكان ناصر الدين هذا من أفاضل زمانه وأسخياء عهده ، وكان يعنى بالعلماء والفضلاء ، وكانت شهرة نصير الدين قد وصلت إليه وعرف مكانته في العلم والفلسفة والفكر ، وكان من قبل راغبا في لقياه فأرسل يدعوه إلى قهستان ، وصادفت الدعوة هوى في نفس المدعو الشريد ورأى أنه وجد المأمن الذي يحميه فقبل الدعوة وسافر إلى قهستان . وبلغ علاء الدين محمد زعيم النزاريين نزول الطوسي على واليه ناصر الدين . فطلبه منه فلم يكن مناص للطوسي من إجابة الدعوة ، فمضى ناصر الدين مصطحبا الطوسي إلى زعيمه علاء الدين في قلعة ( ميمون دز ) . ثم انتهت حياة علاء الدين قتلا بيد أحد حجابه فتولى أمر النزاريين بعد ابنه الأكبر ركن الدين خورشاه .
وظل الطوسي مع ركن الدين في قلعة الموت حتى استسلام ركن الدين للمغول في حملتهم الثانية بقيادة هولاكو . هذا بعض ما يقال عن اتصال نصير الدين الطوسي بالنزاريين ، ولكن هناك مؤرخين يخالفون هذا الرأي ويرون أن الطوسي ذهب إلى النزاريين مرغما وأقام عندهم مكرها . فقد جاء في ( درة الأخبار ) أن أوامر قد صدرت إلى فدائيي النزاريين باختطاف الطوسي وحمله إلى قلعة ( الموت ) وأن الفدائيين ترصدوه في أطراف بساتين نيسابور وطلبوا إليه مرافقتهم إلى الموت وأنه امتنع فهددوه بالقتل وأجبروه على مرافقتهم ، وأنه كان يعيش هناك سنواته شبه أسير أو سجين . وكذلك فإن ( سرجان ملكم ) في تاريخه قد أيد إرغامه على الذهاب إلى ( الموت ) وإن كان قد ذكر هذا الإرغام برواية تختلف عن رواية درة الأخبار غير أن ( وصاف الحضرة ) قد جاء بأمر وسط بين الأمرين . أي أن الطوسي قد ذهب مختارا إلى ناصر الدين ، وخلال مقامه عنده حدث ما عكر صفو ودادهما ، فنقم عليه ناصر الدين واعتبره سجينا لديه ، ثم أرغمه على مصاحبته إلى ( ميمون دز ) حيث عاش سجينا لا يبرح مكانه . على أنه مهما يكن من أمر ، فسواء صح الافتراض الأول ، وهو أنه ذهب إلى النزاريين مختارا وأنهم لم يؤذوه ولم يعتبروه أسيرا أو سجينا . أو صح أحد الأمرين الآخرين ، وهو أنهم هم الذين اختطفوه وحجزوه لديهم ، أو أنه ذهب مختارا ثم فسد ما بينه وبينهم فضيقوا عليه وحبسوه . سواء صح هذا أو ذلك أو ذلك فليس في واحد منها إلا ما يدحض مزاعم ابن تيمية من أنه " أهم رجالات الإسماعيلية الملاحدة وأنه وزيرهم " .
فإذا صح الافتراض الأول فهو لا يدل إلا على أن نصير الدين الطوسي كان مجرد لاجئ مع غيره من اللاجئين الفارين بدمائهم إلى مكان يحميهم من القتل العام ، فهو ليس من رجالات الإسماعيليين أصلا ، فضلا عن أن يكون من أهم أولئك الرجالات ، وموقع اللاجئ في ملجئه موقع الضعيف المقهور الذي يحس الذل والهوان في كل ركن يأوي إليه وكل خطوة يخطوها .
ولا يكتفي ابن تيمية بوصف الطوسي بما وصفه به ، بل يزيد على ذلك بأنه وزيرهم ! . . اللاجئ المقهور المستكين الذي لا يطمح بأكثر من الحمى الأمين يتحول عند ابن تيمية إلى وزير ! .
أما إذا لم يصح الافتراض الأول فالطوسي كان أسيرا سجينا في الموت قاعدة ( الإسماعيليين الملاحدة ) .
على أنه ما لنا ولكل هذه الافتراضات ما دمنا أمام نص صريح واضح لا لبس فيه ولا غموض ، نص خطته أنامل نصير الدين الطوسي نفسه ، فأرانا حقيقة حاله وما كان عليه .
يقول نصير الدين الطوسي في آخر كتابه ( الإشارات ) الذي ألفه خلال إقامته في قلاع النزاريين ما نصه :
" رقمت أكثرها في حال صعب لا يمكن أصعب منه حال ، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال لا يوجد أجدر منه بال ، بل في أزمنة يكون كل جزء منها ظرفا لغصة وعذاب أليم وحسرة وندم عظيم وأمكنة توقد لكل آن فيها زبانية نار جحيم ويصب من فوقها حميم . ما مضى وقت ليست عيني فيه مقطرا ولا بالي مكدرا ولم يجئ حين لم يزد ألمي ولم يضاعف همي وغمي نعم ما قال الشاعر بالفارسية ( وهنا يستشهد ببيت شعر فارسي ) ثم يتم القول : " وما لي في امتداد حياتي زمان ليس مملوءا بالحوادث المستلزمة للندامة والحسرة الأبدية ، وكان استمرار عيشي أمير جيوشه غموم وعساكره هموم . اللهم نجني من تزاحم أفواج البلاء ، وتراكم أمواج العناء بحق رسولك المجتبى ووصيه المرتضى صلى الله عليه وآله وسلم ، وفرج عني ما أنا فيه ، بلا إله إلا أنت أرحم الراحمين " . ( انتهى ) .

إنه في حال صعب لا يكون أصعب منه . وإنه في كدورة بال لا يوجد أكدر منه . وإنه في غصة وعذاب أليم ، توقد فيها زبانية نار جحيم ، ويصب من فوقها حميم . لقد بلغ إلى هذا الحد الذي يبكي فيه كل يوم ، يبكي وهو الرجل الصلد الصلب إن أيامه هموم وغموم . وأخيرا يسأل الله أن ينجيه مما هو فيه . . . هذه هي حياة الرجل بين النزاريين . هذا واقعه الذي يعيشه في الموت لاجئا أو أسيرا سجينا ، مقهورا محزونا هذا هو الرجل عند نفسه ، وعند الحقيقة المعاشة ! .

أما عند ابن تيمية الذي يرى ببصيرته المغشاة بعصبيته الذميمة فهو هناك أهم الرجال والوزير الخطير . وينقله ابن تيمية من موقع أهم الرجال ومنصب الوزارة في الموت إلى الآمر الناهي المسيطر في بغداد ! . . إنه هو الذي أصدر الأمر بقتل الخليفة ! . .
هولاكو قائد الجيوش الجرارة ، الحاكم المطلق ، قاهر الدول ومذل الملوك ، يتخلى فجأة عن سلطاته ليجعلها في يد رجل غريب أسره بالأمس فيمن أسر من الرجال ! . هذا هو منطق ابن تيمية ! .
إن الذي يأمر وينهى ، والذي يصدر أوامر القتل ، وقتل من ؟ . قتل الخليفة . . هو نصير الدين الطوسي لا هولاكو . ولم يشرح لنا ابن تيمية سبب زهد هولاكو بالسلطة بعد انتصاره الحاسم ، ولا علة اعتكافه وتنازله عن الحكم لرجل غريب مثل الطوسي ! . . إن ابن تيمية لا يبالي أن يدافع عن الوثني الطاغية السفاك السفاح ويبرئه من الأمر بقتل الخليفة ويلصق ذلك بالمسلمين ، إنه لا يبالي بذلك بعد أن غطت العصبية العمياء على بصيرته ! .
وننقل لابن تيمية نصوص المؤرخين الذين ذكروا مقتل الخليفة ، ننقلها وهو وراء القرون الخوالي ، ننقلها له لأنه لا يزال يعيش فيما سطرته أنامله من أضاليل .
إن صاحب كتاب ( الحوادث الجامعة ) الأقرب عهدا بعصر هولاكو ، بل المعاصر له ، يقول : إن هولاكو أمر بقتله فقتل يوم الأربعاء رابع عشر من صفر ولم يهرق دمه بل جعل في غرارة ورفس حتى مات(1)
ويقول أبو الفداء ( 2 ) إنهم أي المغول قتلوه ( ولم يقع الاطلاع على كيفية قتله ، فقيل خنق ، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتى مات ، وقيل غرق في دجلة والله أعلم بحقيقة ذلك ) .